التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
يُتَّهم عمر رضي الله عنه من بعض الكارهين لرموز الإسلام، بالتحريف للشريعة، ومنشأ هذه الشبهة قيامه ببعض الأمور التي لم يكن لها مثال في حياة الرسول.
يُتَّهم عمر في مثل هذه المسألة من الشيعة، والعلمانيين، وبعض الكارهين لرموز الإسلام، بالتحريف للشريعة، وبزيادته للحدود وطرق العقاب، ومنشأ هذه الشبهة قيام عمر رضي الله عنه ببعض الأمور التي لم يكن لها مثال في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الأمر يوضِّح المسألة، ويُبَرِّأ عمر من شبهة التحريف، من هذه الأمور مسألة قتل عمر لعدد من الناس اشتركوا في قتل رجل واحد، على الرغم من أن الآية تحدِّد {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
نحن نردُّ على هذه الشبهات، وهو أمر مهم للغاية:
أولًا: للدفاع عن رمز كبير كعمر رضي الله عنه
ثانيًا: لأن اتِّباع سنة الخلفاء الراشدين أمرٌ نبوي، وبالتالي ما فعله عمر يعتبر حجَّة تشريعية على الفعل، خاصَّة أنه كان يفعل ذلك في وجود الصحابة، وهم إما يقبلون بذلك بعد مناقشات، أو يسكتون، وهذا يُسَمَّى إجماعًا سكوتيًّا، وقد يُنْكِر البعض هذا الإجماع، ويفترضون أن الصحابة يخافون من إبداء رأيهم، والذي يقول هذا الكلام لا يعرف طبيعة الصحابة، ولا طبيعة الخلفاء الراشدين، ولا طبيعة المرحلة التشريعية التي تمرُّ بها الأمة آنذاك.
تكرَّر هذا الأمر مرتين في عهد عمر، وكلتا القصَّتين كانتا في صنعاء باليمن!
القصة الأولى: عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ غُلاَمًا قُتِلَ غِيلَةً، فَقَالَ عُمَرُ: «لَوِ اشْتَرَكَ فِيهَا أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ» وَقَالَ مُغِيرَةُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ: «إِنَّ أَرْبَعَةً قَتَلُوا صَبِيًّا»، فَقَالَ عُمَرُ: مِثْلَهُ[1]، وتفصيل هذه القصة في البيهقي عن جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ حَكِيمٍ الصَّنْعَانِيَّ، حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ امْرَأَةً، بِصَنْعَاءَ غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَتَرَكَ فِي حِجْرِهَا ابْنًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ: أَصِيلٌ فَاتَّخَذَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ زَوْجِهَا خَلِيلًا، فَقَالَتْ لِخَلِيلِهَا: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ يَفْضَحُنَا فَاقْتُلْهُ، فَأَبَى، فَامْتَنَعَتْ مِنْهُ فَطَاوَعَهَا، وَاجْتَمَعَ عَلَى قَتْلِهُ الرَّجُلُ وَرَجُلٌ آخَرُ وَالْمَرْأَةُ وَخَادِمُهَا، فَقَتَلُوهُ ثُمَّ قَطَّعُوهُ أَعْضَاءً، وَجَعَلُوهُ فِي عَيْبَةٍ[2]مِنْ أَدَمٍ فَطَرَحُوهُ فِي رَكِيَّةٍ[3]فِي نَاحِيَةِ الْقَرْيَةِ، وَلَيْسَ فِيهَا مَاءٌ ثُمَّ صَاحَتِ الْمَرْأَةُ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ فَخَرَجُوا يَطْلُبُونَ الْغُلَامَ قَالَ: فَمَرَّ رَجُلٌ بِالرَّكِيَّةِ الَّتِي فِيهَا الْغُلَامُ فَخَرَجَ مِنْهَا الذُّبَابُ الْأَخْضَرُ، فَقُلْنَا: وَاللهِ إِنَّ فِي هَذِهِ لِجِيفَةً، وَمَعَنَا خَلِيلُهَا، فَأَخَذَتْهُ رِعْدَةٌ، فَذَهَبْنَا بِهِ فَحَبَسْنَاهُ وَأَرْسَلْنَا رَجُلًا فَأَخْرَجَ الْغُلَامَ، فَأَخَذْنَا الرَّجُلَ فَاعْتَرَفَ فَأَخْبَرْنَا الْخَبَرَ فَاعْتَرَفَتِ الْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ الْآخَرُ وَخَادِمُهَا، فَكَتَبَ يَعْلَى (بن أمية التميمي رضي الله عنه)، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ بِشَأْنِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِقَتْلِهِمْ جَمِيعًا، وَقَالَ: "وَاللهِ لَوْ أَنَّ أَهْلَ صَنْعَاءَ شَرِكُوا فِي قَتْلِهِ لَقَتَلْتُهُمْ أَجْمَعِينَ"[4].
وتكرَّرت القصة مرة أخرى: في الموطأ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَتَلَ نَفَرًا، خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً بِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَتَلُوهُ قَتْلَ غِيلَةٍ، وَقَالَ عُمَرُ: «لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ جَمِيعًا»[5]. وتفصيل القصة في سنن الدارقطني عَنْ أَبِي الْمُهَاجِرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمْيرَةَ مِنْ بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ يَسْبِقُ النَّاسَ كُلَّ سَنَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ وَجَدَ مَعَ وَلِيدَتِهِ سَبْعَةَ رِجَالٍ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ ثُمَّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ، فَجَاءَ الَّذِي مِنْ بَعْدِهِ فَسُئِلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مَضَى بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: فَذَهَبَ الرِّجَالُ إِلَى الْخَلَاءِ فَرَأَى ذُبَابًا يَلِجُ فِي خَرَقَ الرَّحَى ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا، فَعَرَفَ أَنَّ فِيهَا لَحْمًا، فَرَفَعَ الرَّحَى وَأَرْسَلَ إِلَى سَرِيَّةِ الرَّجُلِ، فَأَخْبَرَتْهُ بِالْقَوْمِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: «أَنِ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ أَجْمَعِينَ، وَاقْتُلْهَا مَعَهُمْ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَهْلُ صَنْعَاءَ اشْتَرَكُوا فِي دَمِهِ قَتَلْتُهُمْ بِهِ»[6].
هل غيَّر عمر شرع الله بقتله عددًا من الناس بواحد؟ خاصَّة أن هذا لم يحدث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هذا الحكم من عمر سبَّب إشكالًا عند البعض؛ لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، الآية وإن جاءت تصف حكمًا في التوراة إلا إنها معمول بها في شرعنا، وطبَّقها على هذه الصورة رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولكن الاختلاف في قصَّتنا في مسألة قتل عدد من الأنفس اشتركت في قتل نفس واحدة.
فقال الظاهرية: لا تقتل الجماعة بالواحد، لظاهر الآية، التي شرطت المساواة والمماثلة، ولا مساواة بين الواحد والجماعة، لقوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ولكن هناك جواب على قولهم:
أولًا: قال القرطبي: الْمُرَادَ بِالْقِصَاصِ فِي الْآيَةِ قَتْلُ مَنْ قَتَلَ كَائِنًا مَنْ كَانَ، رَدًّا عَلَى الْعَرَبِ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَ بِمَنْ قُتِلَ مَنْ لَمْ يَقْتُلْ، وَتَقْتُلْ فِي مُقَابَلَةِ الْوَاحِدِ مِائَةً، افْتِخَارًا وَاسْتِظْهَارًا بِالْجَاهِ وَالْمَقْدِرَةِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَ.
ثانيًا: لو لم يُقتلوا لما أمكن تطبيق القصاص أصلًا، إذ يُتَّخذ الاشتراك في القتل سببًا للتخلُّص من القصاص.
ثالثًا: مَن الذي سنختاره للقتل إذا اشترك ثلاثة أو أربعة في القتل؟
رابعًا: ليس عمر رضي الله عنه وحده الذي اجتهد هذا الاجتهاد، بل قتل عليٌّ رضي الله عنه عددًا كبيرًا من الحرورية (الخوارج) بعبد الله بن خبّاب.
خامسًا: لم يثبت أن أحد الصحابة خالف عمر في هذا الاجتهاد، وقد ذهب أئمة المذاهب الأربعة لاحقًا إلى أنه تقتل الجماعة بالواحد، قلَّت الجماعة أو كثرت، سدًّا للذرائع.
سادسًا: روى الترمذي وهو صحيح عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ يَذْكُرَانِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ»[7].
سابعًا: هذا المبدأ ليس مقصورًا على جرائم القتل، إنما هو عام في الجرائم كلها؛ فلو اشترك رجلان في سرقة قُطِعا جميعًا، ولو زنى رجلان بامرأة، جُلِدا أو رجما جميعًا تبعًا للإحصان، ولو شرب رجلان كأسًا واحدًا من الخمر جلدا جميعًا، وهكذا.
هذه القصة توضِّح:
1- مدى اهتمام الدولة المسلمة بالحقوق، والحرص على حياة أفرادها، وحماية أمنها؛ ويَبرز ذلك في مراسلة أمير المؤمنين القاطن في قطر آخر من أقطار الدولة الكبرى ليسألوه عن الحكم في قتيل واحد؛ غلام أو رجل، من عامة الشعب!
2- احتياج الأمة في زماننا المعاصر لهذا الحسم العمري في مسألة القتل، خاصة مع أمور لابد أن ننتبه إليها: ازدياد وتيرة القتل بشكل عام، وازدياد القتل العنيف بالذبح والتشويه بعدد كبير من الطعنات، وازدياد القتل في الشباب، ازدياد القتل في الأسر والرحم، كما نرى بين الأزواج والأخوة، والمستقبل لا يحمل بشريات في هذا المضمار؛ لأننا مقبلون على زمن يزيد فيه القتل: ففي البخاري عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ: «هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ». أشار بيده كالضارب بالسيف على عنق الإنسان[8].
3- إذا أخذنا هذا الحكم في إطار الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] فإننا سندرك أن قتل الأربعة أو السبعة بالواحد هو حياة للمجتمع؛ لأنه يردع مثل هذه الجرائم المميتة.
4- دور عمر التشريعي؛ في مثل هذه الإبداعات لا نهائي في سيرته، وهو نسيج وحده.
5- أهمية فترة الخلافة الراشدة، فالأحداث الجديدة التي لم يكن لها شبيه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ليست مقصورة على الأحداث الكبرى مثل الردَّة، أو الفتوح، أو جمع القرآن، أو الفتنة بين الصحابة، إنما شملت مثل هذه الحوادث الفقهية أيضًا، فإذا نظرنا إلى العدد الكبير لهذه المناسبات أدركنا أن القانون الإسلامي معتمد بشكل أساس على تطبيقات الخلفاء الراشدين، وهذا يعطي أبعادًا جديدة وأعمق لمفهوم تطبيق سنة الخلفاء الراشدين[9].
[1] البخاري: كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم، 6/2526.
[2] عَيْبَةٍ: وعاء.
[3] رَكِيَّة: بئر.
[4] البيهقي: السنن الكبرى، 8/41 (15754). وقال إسلام منصور عبد الحميد: صحيح، رجاله كلهم ثقات وسنده متصل.
[5] مالك: موطأ مالك (رواية يحيى الليثي)، كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر، 2/871 (1561)، الشافعي: مسند الشافعي، 2/100، 101 (333).
[6] الدارقطني: سنن الدارقطني، حققه وضبط نصه وعلق عليه: شعيب الارنؤوط، حسن عبد المنعم شلبي، عبد اللطيف حرز الله، أحمد برهوم، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1424هـ= 2004م، 4/ 280.
[7] الترمذي: أبواب الديات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب الحكم في الدماء (1398)، وقال الألباني: صحيح.
[8] البخاري: كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (85).
[9] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: حكم عمر في أربعة قتلوا واحدًا
التعليقات
إرسال تعليقك